أزمة الغرب الإفريقي.. كيف تحول من الازهار الإسلامي إلى مركزا للتطرف والإرهاب

أزمة الغرب الإفريقي.. كيف تحول من الازهار الإسلامي إلى مركزا للتطرف والإرهاب
فريق التحرير

تعد القارة الافريقية اكثر قارات العالم التي تنتشر بها الثقافات والحضارات والديانات المختلفة، ففي الشمال نجد الدول العربية بحضارتها الاسلامية وعروبتها العريقة، بينما في الغرب يأتي إقليم شاسع، مترامي الأطراف، تختلف فيه وتتمايز المكونات والبُنى الحضارية، إلّا أنّه يبقى أهمّ ما يميزه هو التمازج الفريد الذي ضمّه ما بين الإسلام كحضارة وثقافة وديانة، وما بين العنصر الأفريقي، وما يحمله من ثقافات وعادات ومعتقدات موروثة، فكان للإسلام في غرب القارة الأفريقية تجربة فريدة ومتمايزة عمّا تطوّر في سائر الأقاليم والمناطق.

الدخول والانتشار.. .التجّار يحملون الرسالة

وفي ظل انتشار الإسلام عبر الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، وعلى امتداد مناطق شمال أفريقيا، ومنذ القرن الـ7 الميلادي، ابتدأت التأثيرات بالامتداد جنوباً عبر الساحل الأطلسي والصحراء الكبرى، ليبدأ تدريجياً انتشار الإسلام في غرب قارّة أفريقيا، وهو ما جاء بشكل أساسي عبر التجار المسلمين الذين كانوا يصلون من شمال أفريقيا، وينتقلون إلى تلك الأنحاء، ومن ثمّ يستقرون هناك لفترات حتى يقضوا حاجتهم، وخلال ذلك كانوا يُعرّفون السّكان بالدين الجديد.

وكانت "مملكة غانا" إحدى أولى الممالك الإسلامية التي ازدهرت في تلك الأنحاء، وقد دخل الإسلام مملكة غانا منذ أواخر القرن الأوّل الهجري، وذلك بالتحديد في مدينة "كومبي"، وهي السوق الكبرى، والمدينة التجارية الأولى في المملكة آنذاك. ففي تلك المدينة سمح الملك الغاني للتجار المسلمين بالاستقرار في أحد أحيائها ليتحوّل إلى حيّ إسلامي داخل المدينة، فبنوا فيه المساجد.وعلى غرار هذا الحي، ظهرت تدريجياً عدة تجمّعات للمسلمين على امتداد مملكة غانا، أقام فيها فقهاء وأئمة وطلبة علم، إلّا أنّه، وبالرغم من ذلك، لم يتحوّل الحكام وغالبية أهل المملكة إلى الإسلام في حينه بعد.

باللون الأخضر: مملكة غانا في أقصى اتساع لها.. .وتتوزع اليوم ما بين مالي وموريتانيا

وخلال القرن الـ11 الميلادي، ومع وصول وامتداد دولة المرابطين، المنطلقة من المغرب الأقصى (موريتانيا والمغرب اليوم) إلى أراضي مملكة غانا، ومن ثمّ قيامها بضمّها على يد أمير المرابطين أبو بكر بن عمر اللمتوني، وابنه الأمير أبو يحيى، أسلم ملك غانا في حينها، تنكامين، وذلك تحديداً عندما استولى المرابطون على العاصمة كومبي في العام 1076. وخلال فترة حكم المرابطين انتشر الإسلام بشكل واضح في غانا. وما أن انهارت المملكة، بحلول القرن الـ13 الميلادي -بعد تعرّضها لهجوم قبائل السوسو الوثنيّة- حتى كانت أراضيها السابقة مناطق إسلامية خالصة.

الذروة.. .ازدهار علمي وحضاري واقتصادي

وتبع ذلك قيام الممالك والسلطنات الإسلامية في مناطق غرب أفريقيا، وبالتحديد بعد القرن الـ11 الميلادي، وتفاوتت في اتساع رقعتها ومنجزاتها ومدى ازدهارها. وتبقى "مملكة مالي" هي الأبرز من بينها جميعاً، وهي التي بالإمكان اعتبارها بمثابة "ذروة" الممالك والحضارة الإسلامية في غرب أفريقيا، وذلك لما حققته من حضور على مختلف المستويات: الاقتصادية، والعلمية، والسياسية.

وخلال عهد مانسا موسى بات اسم تمبكتو لا يقلّ شأناً عن أسماء حواضر إسلامية أخرى مثل القاهرة والقيروان وفاس

وقال المؤرخ "ابن خلدون" إنّ شعوب مالي دخلت في الإسلام بحلول القرن الـ14 الميلادي، وذلك تحديداً مع ازدهار مملكة مالي، التي تأسست بحدود عام 1235، وكانت سبباً في انتشار الإسلام بغرب القارة الأفريقية وعلى نطاق واسع، وخاصة في عهد الملك منسا موسى، أشهر حكامها وأغناهم، وهو أشهر ملك أفريقي أدّى فريضة الحج، حين انطلق من عاصمة مملكته، تمبكتو، وبصحبته الآلاف من أهل مملكته.

وقامت مملكة مالي على أنقاض مملكة غانا، وذلك بعدما تمكّن الزعيم المالي، سوندياتا كيتا، من الإطاحة بحكم قبائل "السوسو"، وتأسيس مملكة مالي. وقد امتدّ حكم مملكة مالي لأكثر من (3) قرون ونصف. في البداية كانت مملكة مالي دولة صغيرة، وخلال فترة وجيزة استطاع سوندياتا أن يوسعها ويبرز اسمها على الخريطة، وذلك بعد أن ضمّ أراضي مملكة غانا السابقة كافة، وتمكّن من إخضاع مناطق شاسعة دانت له بالولاء، خلال عهده الذي استمر حتى وفاته عام 1255. ومن ثمّ بلغت مملكة مالي أوج مجدها واتساعها في عهد مانسا موسى، الذي حكم بين عامي 1312-1337، إذ امتدت المملكة في عهده من بلاد التكرور غرباً عند ساحل المحيط الأطلسي، إلى شرقي النيجر شرقاً، ومن تغازة (في شمال مالي اليوم) شمالاً إلى فوتاجالون على حدود نيجيريا جنوباً.

وبلغت مملكة مالي خلال عهد موسى ذروة قوتها وغناها، وذلك تحديداً بسبب العائدات التي جنتها البلاد من الضرائب المفروضة على التجارة الذاهبة والقادمة عبر مالي، إذ إنّ مالي وبحكم موقعها كانت تتوسط خطوط التجارة الممتدة ما بين سواحل الأطلسي جنوباً وسواحل المتوسط شمالاً، والتي كانت تمرّ عبرها المعادن والمواد الثمينة، من الذهب والنحاس والعاج والملح.

بينما كانت الطرق الصوفية في غرب أفريقيا عنواناً حاضراً وأساسياً في المواجهة مع قوى الاستعمار أواخر القرن الـ19

وحصلت مانسا موسى على شهرة واسعة بسبب رحلة الحج الشهيرة التي قام بها وعُرفت بـ "حجة الذهب"، إذ يذكر ابن خلدون في تاريخه أنّ مانسا موسى اصطحب معه من بلاده للإنفاق على الرحلة (100) جمل لحمل الذهب. وبعد الحج، عاد مانسا موسى إلى العاصمة تمبكتو، ومعه علماء من الحجاز والشام والعراق ومصر، وأسّس في تمبكتو مؤسسات علميّة قاموا بالتدريس فيها. وتُعدّ مكتبة تمبكتو من أهمّ الصروح التي أقامها موسى، وبحيث بات اسم تمبكتو لا يقلّ شأناً في زمانه عن أسماء حواضر إسلامية أخرى، مثل القاهرة والقيروان وفاس.

في مواجهة الاستعمار القادم عبر الأطلسي

وكانت المرحلة الثالثة من قصة الإسلام في غرب أفريقيا تنقلنا إلى القرن الـ19، وذلك عندما اشتدت المواجهة مع حملات الاستعمار القادمة إلى القارة من أوروبا عبر المحيط الأطلسي، وفي هذه المرحلة برز اسم "خلافة سوكوتو"، التي أقامتها قبيلة "الفولاني" المسلمة، في شمال نيجيريا، وامتدّ حكمها ما بين عامي 1804 و1903، وضمّت تحتها أكثر من (30) إمارة.

وتأسست خلافة سوكوتو على يد الشيخ الفولاني (من قبائل الفولاني)، عثمان دان فوديو، وكان الشيخ عثمان مجدّداً مالكيّ المذهب، أشعري العقيدة، متصوفاً على الطريقة القادرية. وتمكّن الشيخ عثمان من توحيد إمارات الهوسا في شمال نيجيريا تحت سلطة واحدة ممثلة في خلافة سوكوتو.

وفي الوقت الذي كانت فيه أحوال خلافة سوكوتو تشهد تراجعاً في أواخر القرن الـ19، كان الاستعمار البريطاني يثبّت أقدامه في حوض نهر النيجر عام 1885، في المنطقة الواقعة اليوم ما بين نيجيريا والكاميرون، ومن ثمّ أخذ البريطانيون بالتقدم شمالاً إلى مناطق خلافة سوكوتو، فتصدى لهم المجاهدون، واندلعت الحرب بين القوّتين بدايةً من عام 1893، إلّا أنّه ومع استمرار تدهور أحوال خلافة سوكوتو تمكّن المستعمر البريطاني من إكمال الاستيلاء على أراضيها في عام 1902.

وبالتزامن مع التقدّم البريطاني عبر حوض النيجر اتجاه الغرب، كانت فرنسا تقيم مستعمراتها في ساحل العاج وغينيا الاستوائية، وجنوباً في ببنين. وما لبث أن توسّع الاحتلال الفرنسي في حوض نهر السنغال باتجاه الشرق، ولكنّه واجه مقاومة شديدة، واندلعت المواجهة بين القوات الفرنسية وقوات مملكة التوكولور المسلمة بقيادة شيخو، وهو ابن الشيخ عمر بن سعيد الفوتي (عاش في الفترة: 1796-1864، وهو شيخ الطريقة التيجانية في غرب القارة الأفريقية في زمانه). واشتدت المواجهة إلى أنّ انهارت مملكة شيخو، ووصل الفرنسيون إلى مالي في عام 1883. وبذلك يظهر كيف كانت الطرق الصوفية في غرب أفريقيا عنواناً حاضراً وأساسياً في المواجهة مع قوى الاستعمار أواخر القرن الـ19.

نشاط الجماعات المتطرّفة.. .خلفيات وأبعاد متداخلة

وبحلول العقد الاخير تحوّلت منطقة غرب أفريقيا إلى بؤرة عالمية لنشاط الجماعات الجهادية، ولعلّه من الدقة الإشارة إلى وجود تفاوت في نشاط هذه الجماعات بحسب البلدان، وهو ما يعود إلى عوامل محليّة عدة في كلٍّ منها، ممّا يُفصح عن الطبيعة المركبة القائمة خلف هذه الجماعات ونشاطها، فبينما يبرز في نيجيريا اسم تنظيم "بوكو حرام"، المرتبط تحديداً بقبيلة الهوسا وبصراع أهلي نيجيري ما بين المسلمين في الشمال والمسيحيين في الجنوب، على خلاف ذلك نجد أنّ العلاقة بين الطرق الصوفية التقليدية والسلطة السياسية السنغالية القائمة منذ عهد الاستعمار، قد أدت دوراً رئيساً في الاستقرار الاجتماعي في السنغال، ممّا أدى لإضعاف نشاط التنظيمات المتطرفة هناك.

وللمشف عن تفاصيل هذه التحوّلات وخلفياتها، ونشاط الحركات الجهادية في غرب أفريقيا خلال العقدين الأخيرين، وتحديداً فيما يُعرف بمنطقة "الساحل الأفريقي" (الممتدة عبر النيجر، ومالي، وموريتانيا، وبوركينا فاسو)، يتحدث محمد حُرمه، الصحفي الموريتاني المختص في شؤون غرب أفريقيا، وبداية من الحديث عن جذور هذا النشاط، قائلا "في تسعينيات القرن الماضي عاشت الجزائر ما عُرف بالعشرية السوداء، التي برزت فيها "الجماعة السلفية للدعوة والقتال"، التي كبّدت الجيش الجزائري خسائر كبيرة، قبل أن ينجح في أن يكبدها خسائر فادحة، وأرغمها عام 2005 على النزول من جبال الأوراس، متوجهة نحو الصحراء الكبرى، ومن هناك بدأت الاتصالات بين الجماعة الجزائرية وتنظيم القاعدة الأم. كان واضحاً آنذاك أنّ التنظيم الجزائري قرّر أن يتوسع، ويدخل ضمن استراتيجية تنظيم القاعدة، وبدأ باستهداف الرعايا الغربيين في جنوب الجزائر وفي شمال مالي والنيجر، قبل أن يشنّ هجوماً عنيفاً ضد الجيش الموريتاني في حامية "لمغيطي"، وقد خلّف عشرات القتلى في صفوف الجنود الموريتانيين (2005)، وشنّ هجمات أخرى عديدة في الفترة من 2005 حتى 2007".

واضاف حُرمه: "في الوقت نفسه كانت الجماعة تخوض حرباً دعائية واسعة، خاصة ضد موريتانيا التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل منذ 1999، ونجحت في استقطاب الكثير من الشباب الموريتاني الغاضب، وفي عام 2007 بايعت "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" أسامة بن لادن، وأصبحت أحد فروع القاعدة، وأصبح اسمها "تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي". تشكّل التنظيم من عدة إمارات، موزعة على مناطق متفرقة من الجزائر، ولكنّ قوة التنظيم تركزت في "إمارة الصحراء"، التي تشمل، بالإضافة إلى جنوب الجزائر، مناطق واسعة من الصحراء الكبرى، واستمدّت هذه الإمارة قوتها من تنوع المنخرطين في وحداتها القتالية، فكانت القيادة العسكرية لدى الجزائريين، والإفتاء والوعظ والشورى عند الموريتانيين، بينما يتولى الطوارق أمور اللوجستيك".

أهم الأخبار