بين المجند «ريان» و الطفل «ريان»

بين المجند «ريان» و الطفل «ريان»
عبد الله ناصر العتيبي

طوال خمسة أيام، كانت عيون المشاهدين العرب تدور في حلقات مفرغة ما بين شاشات المحطات الفضائية وأجهزة «الموبايل» بحثاً عن بشارة أمل تُعيد الطفل المغربي «ريان أورام» إلى حضن أمه. عشرات الملايين من المشاهدين وحدوا نقطة التقاء أبصارهم في منطقة «شفشاون» في المغرب. التقوا هناك من غير أن يضربوا موعداً أو يتفقوا على الزمان والمكان. العراقي علّق مشاعره في دموع عينيه وانتظر مع المنتظرين. وكذلك فعل المصري والسعودي والإماراتي واليمني والسوداني وغيرهم من باقي الشعوب العربية. التقت عيونهم ومشاعرهم في لحظة واحدة من أجل هدف واحد لا غير: «إنقاذ الطفل ريان Saving Child Ryan»!

فما الذي جمعهم، ووحد مشاعرهم، واختار لهم طريقاً واحداً لا يمكن لهم أن يسيروا في طريق غيره؟ إنه الإعلام! إنها الكاميرا، التي استطاعت أن تجمع القلوب على الانحياز والانتماء والاصطفاف خلف قلب أم ريان ووالد ريان. الإعلام وحده. لا فرادة القضية، إذ يموت الكثير من الأطفال يومياً في العالم بطرق قد تكون أكثر مأساوية، ولا جنسية الطفل، ولا حالة عائلته المادية. إنه الإعلام الذي تآمرت كاميراته على التواجد في مكان واحد والبث بصوت واحد وبموسيقى واحدة وبسيناريو واحد وبطريقة إخراج واحدة. إنه الإعلام.

قبل أكثر من عشرين عاماً شاهدت فيلماً أميركياً بعنوان «إنقاذ المجند ريان Saving Private Ryan» من بطولة توم هانكس ومات ديمون. كان الفيلم يتحدث عن محاولة أشبه بالمستحيلة لإنقاذ جندي أميركي عالق في إحدى فخاخ الحرب العالمية الثانية. كان الفريق المكلف بعملية إنقاذ المجند الوسيم ريان يتكون من شبان وسيمين تخطف وجوههم الأعين، والموسيقى التصويرية المصاحبة تنفذ إلى القلوب، والمشاعر الإنسانية الدافئة التي كان المخرج يرسمها على وجوه أبطال الفيلم تسيطر على دمع العيون!

كان الهدف من الفيلم، كما في الأفلام الأميركية من هذا النوع، تجارياً في الدرجة الأولى، لكن ذلك لم يكن يمنع الأميركيون، كما هي عادتهم، من أن يدّسوا الترويج لعسكريتهم في «عسل الدراما». كل «مواطن عالمي متوسط» شاهد الفيلم تعاطفَ بشكلٍ أو بآخر من المجند ريان ومنقذيه، وتناسى بشكل أو بآخر أيضاً ما تقوم به الآلة العسكرية الأميركية بين الحين والآخر من عمليات في مواقع مختلفة من العالم بهدف فرض أجندة ساسة البيت الأبيض بالقوة!

كانت الدراما مصنوعة. ورصاصات الكاميرا متعمدة. والحوارات الدافئة والمؤثرة في الفيلم منتقاة بعناية. والموسيقى التصويرية مؤلفة لهذا الغرض تحديداً، لكن وبالرغم من كل ذلك، كنّا كمشاهدين نهلل ونصفق لعملية الإنقاذ وندعو بطول العمر للسيد «توم هانكس» الذي أنقذ «مات ديمون» وأخرجه من غياهب الموت.

فإذا كانت الصناعة والصانع والمصنوع تعمل في مشاعرنا كل ذلك، فما بالكم بالحقيقة التي لم يتدخل في صياغتها أحد؟ لم يختر أحد شفشاون مكاناً للتصوير، ولم يرشح أحد الطفل ريان لبطولة الفيلم، ولم يختر أحد «علي الصحراوي - حفّار البئر» ليشاركه البطولة، ولم يسهم أحد في جمع الناس حول فوهة البئر وكأنهم كومبارس مستأجرون! لم يتدخل أحد في صياغة سيناريو حزين لهذه الأيام الخمسة، لكنها أبكت الصغير والكبير والغني والفقير والمتعلم والأمي، وجمعت العيون والقلوب على لحظة حقيقة واحدة!

إنه الإعلام، فإذا فشل الساسة العرب في توحيد كلمتهم، فلربما أن الإعلام قادر على فعل ذلك متى ما أراد.أخبرنا ريان قبل رحيله أنه ليس من المهم أن يجتمع الساسة، الأهم أن يجتمع الإعلاميون على قلب «ريان» واحد!

أهم الأخبار