خطيب المسجد الحرام: الصيام يزكي النفس ويربي المسلم على تهذيب سلوكه

أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي المسلمين بتقوى الله وتزكية الأعمال والأقوال بالتقوى والإخلاصْ، وأن يبادروا بالتوبة.
وقال في خطبة الجمعة، اليوم، التي ألقاها بالمسجد الحرام: الحمد لله واسع العطايا وجزيل الهبات، ذي الفضل والإحسان والمكرمات، جعَل في أيام الحياة مواسمَ خيرات، وفرصًا للتزوُّد من الطاعات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العباد وباري البريات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المنعوت بأشرف الخلال الزاكيات، صلى الله وسلم وبارك عليه مادامت الأرض والسماوات. أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله الملكَ العلام، وصاحبوا التقوى في شهر الصيام، ولتكن صفةً راسخةً لكم على الدوام ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
وأضاف قائلاً: أيها المسلمون: يقول سبحانه ممتنا على خلقه ﴿وَما بِكم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ فالنِّعم كلها من الله وحده، لا من أحد سواه، فلنرغب إلَيْهِ أن يلهمنا ويوزعنا شكرها. هذا، وإن من نعمة الله على عبده وفضله وإحسانه أن يستبقيَه حيا صحيحاً معافى حتى يدرك مواسم الخيرات فيتزود من القربات ويسابق في ميادين الطاعات، فقد جاء في الحديث: أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما، واستُشهد أحدهما ثم مكث الآخر بعده سنة، ولما رُؤي في المنام أن الذي مات على فراشه دخل الجنة قبل الآخر بحين تعجب الصحابة فقال صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "من أي ذلك تعجبون "؟ قالوا: يا رسول الله! هذا كان أشدَّ الرجلين اجتهاداً، ثم استُشهد في سبيل الله، ودخل هذا الجنة قبله! فقال: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ " قالوا: بلى " وأدرك رمضان، فصامه؟ "!قالوا: بلى " وصلى كذا وكذا سجدة في السَّنَة؟ "! وفي هذا ما يدل على فضْل طول العمر وزيادة العمل مع إحسانه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "خيرُ النَّاسِ مَن طال عُمرُه وحسُنَ عمَلُه".
وتابع في خطبته متحدثاً: يا عبد الله: نِعم المجاهدة أن تغلب هوى نفسك وتزكيَها، ونِعم الأرض نفسك إن بذرت الخير فيها، فقد قال خالق النفس وباريها: ﴿قد أفلح من زكاها﴾. والسعيد من نظر إلى الدنيا اعتباراً لا اغتراراً، وعمل الخير بداراً لا انتظاراً، فبادر بالعمل واشتر نفسك اليوم فإن سوق المغانم الأخروية قائمةٌ والثمنَ موجودٌ والبضائعَ وافرة. وسيأتي على تلك السوقِ والبضائعِ يومٌ لا تصل فيه إلى قليلٍ ولا كثيرٍ ﴿ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾، ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ﴾ وإن من الناس من تتاح له فرص ثمينة للمتاجرة الرابحة فلا ينتهزها، فإذا انفرط عليه العمر وانقضى الزمان ندم على أنه لم يستدرك ويُحصِّل كما حصل غيرُه واجتهد.
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التّقَى ولاقيتَ بعد الموتِ من قد تزَوّدَا
ندِمتَ على أن لا تكون كمثلـهِ وأنّكَ لم تُـرصِد لما كـان أرصـدا.
وحث قائلاً، أيها المسلمون: أقبل علينا رمضان من جديد بفضل الله ومنته، فنحمد الله على نعمته، لكن تأملوا في حالنا بعد بلوغ شهرنا فمنا من شهد معنا أول الشهر إلا أنه ما لبث أن باغته الأجل فارتحل، ومنا من أدرك رمضان إلا أنه عاجز عن الصيام والاغتنام لمرضه أو كِبَر سنه، ومنا من هو محروم عياذاً بالله، قد استحوذ عليه الشيطان فقطع صلته بدينه الذي هو عصمة أمره، فلا صلاة ولا صيام، وإنما اكتفى أن ينتسب اسماً للإسلام، ومنا من وفقه الله فحرَص على الصيام والتزود من الطاعات، وهم درجات وأفضلهم وأسعدهم حظاً ذلك الموفق الذي قدَر لرمضان قدره وعرف شرفه وفضله، فأقبل عليه أفضل إقبال، وشمّر عن ساعد الجد واجتهد لينال النصيب الأوفر من الخير وصالح الأعمال. وقد كان من الناس من فرط في رمضان المنصرم فتحسر بعد فواته على تفريطه وأحس بتقصيره وصار مشتاقاً لبلوغ رمضان المقبل عازماً على أن يستدرك ما فاته ويقبل، فها هو ذا قد بقي وبلغه الله ما كان يبغي، فماذا هو فاعل الآن؟! وهل سيتلافى ما كان من غفلة وإضاعة وعصيان؟! فأيها المسلمون: إن النفوس يحصل لها شيء من الشرود والابتعاد والغفلة والفتور، ثم بعد ذلك يأتي هذا الشهر ليصقُلَها، ويعيدَها إلى جادتها، فتستقيمَ على أمر الله، وتحصلَ لها الذكرى واليقظة، كما يكون للعبد من الفكر وحياة القلب ما يحمله على طاعة مولاه، والكف عن كل ما يَشينه ولا يليق، ويجد في قلبه من الرغبة في الخير ما لا يجده في غير هذا الشهر، فلنستشعر ما نحن فيه ونقبلْ بتوبة نصوح ونستكثرْ من الطاعات والباقيات الصالحات في موسم الخيرات والنفحات، ولنبادر بالاغتنام ونملأ النفوس بالإيمان، لنحقق التقوى ورضى الرحمن.
وحث عباد الله قائلاً: من الحوافز التي تدفع لاغتنام هذه الأيام قوله عليه الصلاة والسلام "إذا كان أولُ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النارِ فلم يُفتحْ منها بابٌ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغلقْ منها بابٌ، ويُنادي منادٍ كلَّ ليلةٍ: يا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقْصرْ، وللهِ عتقاءُ من النارِ، وذلك كلَّ ليلةٍ" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " وقوله صلى الله عليه وسلم "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريلُ، فقال: رغِم أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغفرْ له، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين".
وتابع فضيلته: كان هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات، ولا غرو أن يقتدي به في ذلك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والسلف الصالح رحمهم الله فكان لهم في كل باب من أبواب القربات أوفر الحظ، فاحرص عبد الله في هذا الشهر أن تضرب بسهم في وجوه الخير والبر والإحسان، وتجعل لك نصيباً في جوانب العبادات المختلفة بقدر الإمكان. ومعلوم أن لكل نفس باباً من الخير يفتح لها فتلج فيه وترتقي، فإذا وجدت من نفسك همةً ونشاطاً في جانب من جوانب العبادة فاسلكه، ولا تتوان ولا تقصر وزد فيه، لعل الله يجعل زكاة نفسك فيه، فمن فتح له في الصلاة فليكثر، ومن فتح له في قراءة القرآن فليكثر، ومن فتح له في الدعاء فليكثر، ومن فتح له في الذكر عموماً فليكثر، ومن فتح له في الصدقة فليكثر، وليشغل العبد وقته بما يزيده قربة ورفعة عند مولاه. قد قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم.
للمزيد تابع خليجيون نيوز على: فيسبوك | إكس | يوتيوب | إنستغرام | تيك توك