غُبار الذكريات

غُبار الذكريات
محمود غريب
محمود غريب

تحتفظ ذاكرة الإنسان بالتفاصيل، كل التفاصيل، وليس صحيحًا أن الإنسان ينسى، هو فقط عُرضة للتغاضي، يزيح عن ذهنه بعض المواقف، التي يستدعيها في لحظات الخُلوة، بحلوها ومرّها.

ثمة أنواع ثلاثة من الذكريات، أولها سيئة في عمومها، وتلك تأخذ صاحبها إلى خانة الكره اللاإرادي، نكره أصحابها، والأمكنة التي جمعتنا بهم، ونكره اللحظات، صُدَفها وترتيباتها، تلك الشخصيات الأقل كلفة على مستوى النقاء النفسي والارتياح الذهني، كوننا الأكثر سعادة برحيل أصحابها بركامهم.

النوع الثاني، هم أصحاب الذكريات الجميلة، بوسومها، وتفاصيلها، وفي الغالب يكون الموت هو السبب الحتمي الذي تسبب في قطع الصلة بهم، فنظل نتذكرهم بحرقة تلسع القلب، نتمنى لحظة تجمعنا بهم ولو مرة واحدة، ولتكن لحظة وداع، تموج في أذهاننا مواقفهم وكأننا نشتكي القدر على فعلته.

النوع الثالث، وهو الأشد قسوة، والأكثر جلبًا للأمراض النفسية، والتخبطات الاجتماعية، أؤلئك الذين رحلوا تاركين خليطا من الألم والفرح، لحظات القهر، ونظيرتها من السعادة، لا نعلم وقتها هل نشتاق لهم أم نحمد الله على فراقهم، كومة من التخبط تضرب رؤوسنا.

في عموم الحياة، يمر قطار حياتنا بهذه الأنواع الثلاثة، الأول يشكل مصدر سعادة وراحة لنا، والثاني تهدأ رؤوسنا من التفكير عندما نقين أن القدر لن يغيِّر شيئًا، بينما الثالث يظل يلازم أحلامنا، تاركًا مفازع الأحلام توقظ نومنا على شهقة كأن أروحنا تُقبض من الشرايين.

كذابون من يوهموننا أن ذاكرة الإنسان سمكية، مخادعون من ينعتوننا بالمجانين، غير منصفين من يهوِّنون عنَّا لوعة الحياة، بقصد التخفيف من سخونة التفكير الذي يأكل رؤوسنا.

في الحياة مسارات عدة، أكثرها إزعاجًا تلك التي نقف في منتصفها، العودة للبداية تحمل نفس تكلفة الذهاب لآخرها، والتعثر في وحلها مميت للحاضر والمستقبل، لكننا مجبرون على تسكين أوجاع الدماغ، ولا نستكثر عليه التفكير، والاشتياق والتلعثم.

للقلب ذاكرة خاصة، تلك التي تحتفظ بالمشاعر، حجمها يسع التفاصيل الدقيقة، تختلف عن ذاكرة العقل بربط المواقف وتجميعها، تقسو على الإنسان في كثير من الأحيان، ولا تدع مجالاً للقرارات المجردة من الشجون.

ذاكرة القلب لا خلاص منها، ولا تقبل الـformat، تعطينا دائمًا مبررات لبقاء الرأس ساخنة، غبارها حارق، ورائحتها مثيرة للدموع، مسكين أيها القلب، يستبد بك غُبار الذكريات.

اقرأ أيضًا:

انتحار.. وائل غنيم

غوتيريش في «مدرسة المشاغبين»

سلامة قلبك يا بايدن

باتيلي التائه في ليبيا

أهم الأخبار